كلمة الأمينة التنفيذيّة
يطول النقاش في موضوع مخصصات الميزانيات الوطنية لدعم السياسات الاجتماعية، الذي أصبح سبباً من أسباب الانقسامات السياسية في العالم. ففي العديد من البلدان، تستند البرامج الانتخابية والبرامج السياسية التنافسية إلى نماذج مختلفة للنفقات الاجتماعية قادرة على إحداث تغيير إيجابي. وفي اعتماد خطة التنمية المستدامة لعام 2030 وأهدافها للتنمية المستدامة تأكيدٌ على ضرورة إعادة النظر في الحيّز المالي وتوسيعه، وفي الوقت نفسه إيجاد طرق مبتكرة لتحديد النفقات على تدخلات اجتماعية فعالة. والتزام خطة عام 2030 بعدم إهمال أحد يتطلّب وضع نماذج مبتكرة في الإنفاق الاجتماعي تتّسم بالمرونة وبالقدرة على الاستجابة إلى الاحتياجات المتغيرّة للمجتمعات، وتراعي السياسات المالية الكلية.
ولمواجهة الأزمة المالية العالمية لعام 2008، تسلحت الحكومات العربية بمجموعة من التدخلات الاجتماعية، على غرار التحويلات المالية المباشرة وغير المباشرة ورفع الحد الأدنى للأجور والمساعدات النقدية المباشرة. وقد كشفت هذه التدخلات الرسمية عن الحاجة إلى رؤية مؤسسية وإلى نموذج قائم على السياسات في مجال النفقات الاجتماعية. إلا أن عمليات تعديل السياسات المالية وإعادة النظر في مخصصات الميزانية على نطاق واسع لا تخلو من التعقيد. وشكلت انتفاضات عام 2011 صدمة أخرى كان لها وقْعُ الزلزال، عندما طالبت شعوب عربية بالمساواة والعدالة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي. وفي إطار أهداف التنمية المستدامة، التزمت الحكومات العربية بمبدأ "عدم إهمال أحد". وتتيح لها أداة رصد النفقات الاجتماعية المقترحة إمكانية إعادة النظر في تدخلات السياسات الاجتماعية ومراجعتها وتعديلها، بما يدعم هذا الالتزام، ويحقّق أهداف التنمية المستدامة.
وتشكل هذه الأداة التي وضعتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) إجراءً ملموساً للتفكير في تدخلات في السياسة الاجتماعية والحيّز المالي تتواءم مع الميزانيات الوطنية وسياسات الاقتصاد الكلي. ومفهوم رصد النفقات الاجتماعية ليس جديداً في العالم، فقد نُفِّذ في أمريكا اللاتينية والبلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، لكنه ثوريٌّ في المنطقة العربية. وهو يهدف إلى دحض أسطورة المحظورات، من قبيل إعادة تخصيص النفقات وإعادة توزيع الإعانات المالية، من خلال التأكيد على إمكانية إعادة النظر في عملية الاستهداف، لما فيه خير المجتمع. وتتضاعف أهمية رصد النفقات في وقتٍ تعاني فيه المنطقة العربية من أزمة في الميزانية، ومن تقلبات في أسعار النفط، ومرورها بفترة من الاضطرابات السياسية الناجمة عن النزاعات وحالات عدم الاستقرار. والحكومات شديدة القلق اليوم حيال السياسة المالية ومخصصات النفقات الاجتماعية وكيفية تحديد أفضل الطرق لتجنب الخسائر في المكتسبات الاجتماعية.
وتنطوي أداة الرصد على إطار يَسْهُلُ تكييفه مع السياقات الوطنية، ويعتمد على القدرات والموارد المحلية. ويمكن تحويله إلى أداة بسيطة ولكنها فعّالة ومُصَمَّمَة لتحقيق الكفاءة في إنفاق الدولة على السياسات الاجتماعية. وقد تختلف البلدان في ما تصفه بالنفقات الاجتماعية وفي ما إذا كان من الممكن أن تُدْرِج فيها بعض النفقات على غرار المِنح الدراسية وأموال الأوقاف. لكن لا خلاف بينها في أن أداة رصد النفقات الاجتماعية تتواءم مع أهداف التنمية المستدامة التي تشكِّل قاسماً مشتركاً بين مختلف السياقات. ومع ذلك، لا يمكن اعتبارها أداةً ناجحة إلا إذا التزمت الحكومات الوطنية باعتمادها وبإنشاء بنى أساسية للبيانات المتصلة بها. ولا بد أيضاً من اعتماد نهَجٍ قائم ٍعلى مشاركة مختلف الجهات المعنية، لإضفاء الطابع الوطني على الأداة. وتجدر الإشارة إلى أن المنطقة العربية تستوفي هذين الشرطين. وقد أشادت اللجنة التنفيذية للإسكوا، في اجتماعها السادس المعقود في مراكش في 14 و15 حزيران/يونيو 2019، بمشروع أداة الرصد، وأشارت إلى أهمية تكييفها مع السياقات المختلفة في البلدان العربية. وأوصت البلدان الأعضاء بالتنسيق مع الأمانة التنفيذية لتطوير الإطار واستخدامه لتحديد الجوانب المختلفة للنفقات العامة، وتعزيز التنمية الاجتماعية والاستدامة في السياسة المالية الكلية. وكُلُنا أمل بأن تستخدم الدول الأعضاء في الإسكوا هذه الأداة لإعادة التفكير وإعادة النظر في النفقات الاجتماعية، وإعادة تخصيصها بطرقٍ تساهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة وتؤدي إلى رفاه المجتمعات، من دون إهمال أحد.